معالم النَّصر في غزوة بدر

    طباعة المقال  طباعة المقال

    إنَّ الصِّيام فريضةٌ عظيمة، ومنَّة من الله على عباده جسيمة، يربِّي في النُّفوس الإرادات والملكات، ويغرس في جنابها الفضائل والكمالات، وفيه تتدرَّب النُّفوس على حمل المكروه وتحمُّل المشاقِّ والأعباء، وضبط نوازع الهزل والعبث فيها والتَّحكُّم في الأهواء.

    وفي الصَّوم امتحانٌ لصبر الإنسان، والصَّبر رائدُ النَّصر وطاردُ الخذلان، وقد جعله الله زمنًا للنَّشاط وتكثيف الطَّاعات، وموسمًا للبذل والتَّسابق في الخيرات، فلا يصحُّ أن يكون مدعاة للعجز والكسل، أو ذريعة إلى التَّقصير في السَّعي والعمل؛ لأنَّه من النَّاحية الصِّحِّيَّة يعطي قوَّة للجسم، ويدفع عنه كثيرًا من الأمراض، ويشفي فيه كثيرًا من العلل، وهو من النَّاحية المعنويَّة يهب المسلم قوَّة الإيمان وصفاء النَّفس ونقاء الرُّوح الَّتي لها أكبر الأثر في سعادة الأمَّة وذلك في كلِّ زمان ومكان.

    ودليل هذا ذلكم السِّجلُّ الحافل بالانتصارات القاهرة، والمنجزات الباهرة الَّتي حقَّقها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ورعيل الصَّحابة ومن بعدهم من صالحي هذه الأمَّة في فتوحاتهم وحروبهم في مثل هذا الشَّهر المبارك الكريم الَّذي هو شهر رمضان.

    والمتأمِّل في سيرة سيِّد البريَّات صلى الله عليه وسلم ، وما صامه من رمضانات، وما حصل له فيها من نفحات ومكرمات، ما بين فتح وجهاد، ونصر وتمكين، يجد ـ وبلا شكٍّ ـ ما يثير العظة والاعتبار، ويبعث في نفسه بوادر الإجلال والإكبار.

    ففي شهر رمضان كانت تبعث السَّرايا، وتجهَّز الجيوش، وتُخاض المعارك، وتبلَّغ الدَّعوة، فيه هدِّمت أصنام الجاهلية الكبرى ـ اللَّات ومناة وسواع ـ، وفيه هُدم مسجد الضِّرار، وفيه قدمت الوفود من كلِّ حَدَبٍ وصَوْبٍ تشهر بيعتها وتعلن إسلامها.

    إنَّه رمضان الإيمان في أوج قوَّته وأبهى حلله، ورمضان الجهاد في أسمى معانيه من جهاد نفس وعدوٍّ، ورمضان الدَّعوة إلى الله في ذروة عطائها ومدِّها.

    وفي هذه الإطلالة وقفة على أوَّل غزوة من غزوات النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الَّتي شهدها بنَفْسه، وأمدَّها بنَفَسه، دارت رحاها في شهر رمضان الخير، تجلَّت فيها المعاني المتقدِّمة الذِّكر: الإيمان والقوَّة والدَّعوة، وبهذه الثَّلاث تبنى دعائم النَّصر المبين، وتحبك معاقد العزِّ والتَّمكين لأمَّة سيِّد المرسلين، ويقوم لها أمر الدُّنيا والدِّين.

    وبين يديك ـ أيُّها القارئ اللَّبيب ـ قبسات وإشارات من هدي المصطفى الحبيب صلى الله عليه وسلم ، مستلَّة من بعض مواقفه في غزوة بدر، جلَّيتها لك في مشاهد وصور، تُنبئ عن ما وراءها من عِبر ودُرَرٍ.

    أوَّلًا ـ تعريف موجز بغزوة بدر وما أعقبها من أحداث:

    غزوة بدر هي أكرم المشاهد وأعظم غزوات النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وأرفع شأنًا وأسمى ذكرًا، أنزل الله فيها سورة تتلى إلى يوم الدِّين، وهي سورة الأنفال، سمِّيت بغزوة بدر الكبرى، وبغزوة بدر العظمى، وبيوم وقعة بدر، وببدر القتال، وببدر البَطْشَة، وسمَّاها الله بيوم الفرقان، وبيوم الْتَقَى الجمعان، حيث يقول جلَّ جلاله: ﴿ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) ﴾ [الأنفال].

    وقد تقرَّر عند العلماء أنَّ كلَّ ما عظم شأنه وفشا نبؤه، تعدَّدت صفاته وكثرت أسماؤه، وهذا مهيع كلام العرب، وهو كثير في أشعارهم وأخبارهم.

    وقد اتَّفقت كلمةُ أهل العلم بالسِّير أنَّها وقعت في شهر رمضان سنة اثنتين من الهجرة، قال ابن إسحاق: «فكانت وقعة بدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من شهر رمضان»([2]).

    وقد حقَّق المسلمون فيها انتصارًا كبيرًا ـ على قلَّة عددهم وضعف عدَّتهم ـ على أعدائهم من الكفرة والمشركين، وأعزَّ الله ـ تبارك وتعالى ـ بهذه الوقعة الإسلامَ والمسلمين، وحقَّق لهم ما وعدهم من إحدى الطَّائفتين، وخذل الكفر وأهله وكسر شوكة الطُّغيان.

    وكان من أعقاب هذا النَّصر العزيز والإنجاز العظيم أنْ عزَّز المسلمون موقعهم، وفرضوا وجودهم، وأصبح سلطانهم مهيبًا في المدينة وما حولها، وامتدَّ نفوذهم على طريق القوافل في شمال الجزيرة، وأسلم يومئذ بَشَرٌ كثير من أهل المدينة رغبةً ورهبةً.

    قال ابن القيِّم في «الزَّاد» (3/188): «ودخل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينة مؤيَّدًا مظفرًا منصورًا قد خافه كلُّ عدوٍّ له بالمدينة وحولها، فأسلم بشرٌ كثير من أهل المدينة، وحينئذ دخل عبد الله بن أبيٍّ المنافق وأصحابه في الإسلام ظاهرًا».

    ثانيًا ـ صور من اهتمام النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بشحذ النُّفوس بالإيمان:

    ويظهر هذا الاهتمام من خلال الإقبال على أسباب زيادة الإيمان وتقويته من الطَّاعات والقربات، وأجلُّ طاعة وأعلاها قَدْرًا الصَّلاة.

    ولقد بالغ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ـ قبل مضيِّه إلى هذه الغزوة وأثناءها ـ في الاهتمام بهذه الشَّعيرة إقامةً ودعوةً إليها وحثًّا على عدم تضييعها؛ لما للصَّلاة من إظهار الذُّلِّ والخضوع، وإعلان الافتقار والخنوع بين يدي ربِّ العالمين، وقد جعلها الله تعالى قُرَّةَ عيْن المطيع ونعيمَه وفرحَه وسرورَه، وملجَأَه الَّذي يطرح فيه كلَّ همومه وغمومه وشروره، كما في قول سيِّد المطيعين وأقربهم إلى ربِّ العالمين صلى الله عليه وسلم: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»([3]).

    ويتجلَّى هذا الاهتمام بأمر الصَّلاة في:

    1ـ استخلاف النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على الصَّلاة بالمدينة ابن أمِّ مكتوم رضي الله عنه ، قال ابن إسحاق: «وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليال مضت من شهر رمضان في أصحابه واستعمل ابن أمِّ مكتوم على الصَّلاة بالنَّاس»([4]).

    وهذا من اهتمام النَّبيِّ القائد بأمر الصَّلاة، فإنَّ إقامتها في المساجد واجتماع النَّاس فيها على إمام واحد، وإن كانت الأمَّة في أحلك الظُّروف وأحرج المواقف، تقاتل الأعداء وتراقب الأنحاء، فهو حريٌّ بجلب النَّصر ونزول المدد وكسر شوكة العدوِّ، وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا يَنْصُرُ اللهُ هَذِهِ الأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ»([5])، وفي هذا تعبئة لجموع الأمَّة ـ وإن كانوا من أهل الأعذار ـ أن يكونوا مع إخوانهم المجاهدين في قتالهم للكفَّار، وترغيبٌ لهم في نيل الأجر من الكريم الغفَّار.

    2ـ اشتغال النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بالصَّلاة وهو في خضمِّ الإعداد للمعركة، قال ابن القيِّم في «الزَّاد» (3/175): «وسار المشركون سِراعًا يريدون الماء، وبعث عليًّا وسعدًا والزُّبير إلى بدر يلتمسون الخبر، فقدموا بعبدين لقريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلِّي…».

    فانظر ـ رعاك الله ـ حتَّى وهو صلى الله عليه وسلم يدير رحى الحرب، وينظِّم الجند، ويهيِّئ الجيش، ويختار المواقع، ويشاور الأصحاب، ويتحسَّس الأخبار، لا يغفل عن الصَّلاة والدُّعاء، ولا يقطع حبل الأرض بالسَّماء، في ضراعة وإلحاح، يستنزل النَّصر، ويناشد المعونة والمَدَد.

    3ـ إحياء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لليلة القتال بالقيام بين يدي الكبير المتعال: قال ابن القيِّم في «الزَّاد» (3/179): «وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي إلى جذع شجرة هناك، وكانت ليلة الجمعة السَّابع عشر من رمضان في السَّنة الثَّانية».

    عن علي رضي الله عنه قال: «لقد أتينا ليلة بدر وما فينا إلَّا نائمًا، إلَّا النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فإنَّه كان يصلِّي إلى شجرة ويدعوه، وما كان فينا فارسٌ إلَّا المقداد»([6]).

    ولا يخفى ما في إحياء ليلة كاملة بالذِّكر والصَّلاة، والدُّعاء والمناجاة، واغتنام الزَّمن الفاضل من زيادة الإيمان وحصول الأجر الهائل، كلُّ ذلك استعدادًا للقتال وتأهُّبًا للنِّزال، بقوَّة الإيمان وصحَّة التَّوحيد وصدق التَّوكُّل وكمال التَّفويض والتَّسليم لربِّ العالمين.

    4ـ فزع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ومن معه إلى ربِّ الأرض والسَّماء بصنوف الدُّعاء، قال ابن القيِّم في «الزَّاد» (3/176): «فلمَّا طلع المشركون، وتراءى الجمعان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ هَذِهِ قُرَيْش جَاءَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا، جَاءَتْ تحَادُّكَ وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ»([7]) ، وقام ورفع يديه، واستنصر ربَّه، وقال: «اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنِّي أنْشدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ»، فالتزمه الصِّدِّيق من ورائه، وقال: يا رسول الله! أبشر، فوالَّذي نفسي بيده لينجزنَّ الله لك ما وعدك([8]).

    واستنصر المسلمون الله، واستغاثوه وأخلصوا له، وتضرَّعوا إليه، فأوحى الله إلى ملائكته ﴿ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ﴾ [الأنفال: 12]، وأوحى الله إلى رسوله: ﴿ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) ﴾ [الأنفال]».

    وقال ابن كثير واصفًا يوم الوقعة الشَّهيرة، وما وقع فيها من الآيات الكثيرة: «هذا وقد تواجه الفئتان وتقابل الفريقان، وحضر الخصمان بين يدي الرَّحمن، واستغاث بربِّه سيِّد الأنبياء، وضجَّ الصَّحابة بصنوف الدُّعاء إلى ربِّ الأرض والسَّماء، سامع الدُّعاء وكاشف البلاء»([9]).

    وقد سجَّل لهم القرآن هذا الموقف العظيم الدَّالِّ على كمال عبوديَّتهم لله، وصدق توكُّلهم عليه، وطمعهم في تأييده ونصره، فقال: ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) ﴾ [الأنفال:09 ـ 10].

    ثالثًا ـ صُوَر من أخذ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بمظهر القوَّة والشَّجاعة والبلاء الحسن:

    قال ابن كثير في «سيرته» (2/424): «وقد قاتل بنفسه الكريمة قتالًا شديدًا ببدنه، وكذلك أبو بكر الصِّدِّيق، كما كانا في العريش يجاهدان بالدُّعاء والتَّضرُّع، ثمَّ نزلَا فحرَّضا وحثَّا على القتال، وقاتلَا بالأبدان جمعًا بين المقامين الشَّريفين».

    وروى الإمام أحمد بسنده إلى عليٍّ رضي الله عنه قال: «لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا من العدوِّ، وكان من أشدِّ النَّاس يومئذ بأسًا»([10]).

    وفي جهاده صلى الله عليه وسلم للأعداء يوم بدر، ونزوله إلى ساحة القتال دليلٌ على أنَّ النَّصر لم يكن خارقة غيبية، وإن كانوا يعتقدون أنَّ النَّصر من عند الله يَهَبُه لمن يشاء، ولكن لا يهبه إلَّا بأسبابه، والله إذا أراد شيئًا هيَّأ أسبابه، فالأخذ بأسباب القوَّة المادِّيَّة والتَّخطيط للمعركة والتَّأهُّب لها بالعدَّة والعَدَد لا ينافي التَّوكُّل على الله وتفويض الأمر له والاستعانة به، بل هو أمر واجب يجري على السُّنن المعتادة، ومن اعتقد خلاف هذا فقد غفل عن سُنَن الله أو قصَّر في استقرائها، وإن شئت أن تفقه هذه السُّنَّة الكونيَّة والشَّرعيَّة فانظر إلى ما كان من فعل النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في وقعة بدر، وأخذه بأسباب الحيطة والقوَّة والتَّدبير، وإجادته لفنِّ القتال وحسن التَّنظيم والتَّأمير، قال ابن القيِّم في «الزَّاد» (3/182): «وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ملء كفِّه من الحصباء، فرمى بها وجوه العدوِّ، فلم تترك رجلًا منهم إلَّا ملأت عينيه، وشغلوا بالتُّراب في أعينهم، وشغل المسلمون بقتلهم، فأنزل الله في شأن هذه الرَّمية على رسوله ﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾ [الأنفال: 17]».

    ومحلُّ الشَّاهد من هذا النَّصِّ إثبات الأخذ بالأسباب وأنَّها لا تنافي التَّوكُّل المأمور به، قال ابن القيِّم معلِّقًا على ما سبق: «وقد ظنَّ طائفة أنَّ الآية دلَّت على نفي الفعل عن العبد، وإثباته لله، وأنَّه هو الفاعل حقيقة، وهذا غلط منهم من وجوه عديدة… ومعنى الآية: أنَّ الله سبحانه أثبت لرسوله ابتداء الرَّمي، ونفى عنه الإيصال الَّذي لم يحصل برميته، فالرَّمي يراد به الحذف والإيصال، فأثبت لنبيِّه الحذف، ونفى عنه الإيصال».

    رابعًا ـ صور من قيام النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بواجب البلاغ والدَّعوة إلى الله وثوابه:

    وقد كان هذا قبل المعركة بقليل، قبل أن يحمى الوطيس، وتستدير رحى الحرب ويشتدَّ القتال؛ تثبيتًا للمؤمنين، ورفعًا لمعنويَّاتهم، وتخذيلًا لمقالة أهل السُّوء والنِّفاق حين قالوا: ﴿ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ ﴾ [الأنفال: 49].

    قال ابن القيِّم في «الزَّاد» (3/181): «ولمَّا دنا العدوُّ وتواجه القوم، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في النَّاس، فوعظهم وذكَّرهم بما لهم في الصَّبر والثَّبات من النَّصر، والظَّفَر العاجل، وثواب الله الآجل، وأخبرهم أنَّ الله قد أوجب الجنَّة لمن استشهد في سبيله…».

    وقد حصل من وعظ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه في ذلك المقام، من أنواع الفتح والنَّصر والبلاء الحسن والثَّبات على الأقدام، ما لا يُعوَّض بكبير قوَّة وإمداد، أو حسن تأهُّب وإعداد، من حصول السَّكينة والاطمئنان، وطرد أسباب الفشل والخذلان، وهو من أهمِّ عوامل النَّصر والثَّبات، قال ابن كثير في «سيرته» (2/431): «ثمَّ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العريش في الدّرع، فجعل يحرِّض على القتال، ويبشِّر النَّاس بالجنَّة، ويشجِّعهم بنزول الملائكة، والنَّاس بعدُ على مصافِّهم لم يحملوا على عدوِّهم، حصل لهم السَّكينة والطُّمأنينة».

    وكان من أثر هذا الوعظ أيضًا أن تشجَّع أصحابه لبذل أرواحهم في سبيل الله وتنافسهم في ذلك؛ طمعًا في الجنَّة، واستعجالًا للثَّواب، وهو إحدى مقوِّمات النَّصر أن ترى المقاتل مقبلًا من غير إدبار، مجهزًا على أعدائه دون خوف أو إرجاف، قد قوي إيمانه، وعَلَتْ معنويَّاتُه، وصغرت الدُّنيا في عينيه، فهذا عُمَيْر ابن الحُمَام رضي الله عنه قال: يا رسول الله! جنَّة عرضها السَّماوات والأرض؟ قال: «نَعَمْ»، قال: بخ بخ يا رسول الله! قال: «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخ؟»، قال: لا والله يا رسول الله! إلَّا رجاء أن أكون من أهلها، قال: «فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا»، قال: فأخرج تمرات من قَرَنِه، فجعل يأكل منهنَّ، ثمَّ قال: لئن حييتُ حتَّى آكل تمراتي هذه، إنَّها لحياة طويلة، قال: فرمى بما كان معه من التَّمر، ثمَّ قاتلهم حتَّى قُتل»([11]).

    إنَّه ليعظم في أعين النَّاس بادي الرَّأي رجال يحسبونهم أوتادًا راسية في الأمَّة، يتوعَّدون العدوَّ بالهزيمة، ويتباهون بالإقدام وقوَّة الشَّكيمة، شُغلوا بما هم فيه، يتخلَّفون عن مجالس تهذيب الإيمان في مدرسة بَدْر الَّتي درَّب فيها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم جندَه على جهاد العدوِّ، فضاعوا في غياهب الأضاليل، ومنتهم موعدة الأباطيل، فإنَّما النَّصر إكليل لا يتوَّج به صريع في ساحة تخلَّى فيها جندها عن عُدَد الإيمان ومدد التَّقوى والإحسان.

    *   *   *

     

    ([1]) نُشر في مجلَّة «الإصلاح»: العدد (4)/رجب ـ شعبان 1428هـ.

    ([2]) «السِّيرة النَّبويَّة» لابن كثير (2/469)، و«عيون الأثر» (1/281)، و«جوامع السِّيرة» (ص 86).

    ([3]) رواه أحمد (12315) وغيره، وحسَّنه الألباني في «المشكاة» (5261).

    ([4]) «السِّيرة النَّبويَّة» لابن كثير (2/387).

    ([5]) صحيح: أخرجه النَّسائي (3187).

    ([6]) أخرجه الطَّيالسي في «المسند» (2342) بسند صحيح.

    ([7]) أخرجه الطَّبري في «تاريخه» (2/144).

    ([8]) أخرجه مسلم (1763).

    ([9]) «السِّيرة النَّبويَّة» لابن كثير (2/412).

    ([10]) رواه أحمد في «المسند» (654)، وإسناده صحيح.

    ([11]) مسلم (1901)، وأحمد (3/136، 137).

    (عدد المشاهدات4751 )

يُبث في الإذاعة

العنوان :طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ

المستمعين :

استماع

جديد الموقع

موعظة الأسبوع

قالَ الإمامُ ابنُ حزمٍ -رحمه الله- : «إذا حضرت مجْلِس علمٍ فَلا يكن حضورك إِلاّ حُضُور مستزيدٍ علمًا وَأَجرًا، لا حُضُور مستغنٍ بِمَا عنْدك طَالبًا عَثْرَة تشيعها أَو غَرِيبَةً تشنِّعها، فَهَذِهِ أَفعَال الأرذال الَّذين لا يفلحون فِي الْعلم أبد

اقرأ المزيد

مؤلفات الشّيخ

الأكثر مشاهدة

زوّار الموقع

-  الجزائر (90869)
-  الولايات المتحدة (47971)
-  كندا (7813)
-  فرنسا (7480)
-غير معروف (6934)
-  الصين (6188)
-  روسيا (3131)
-  المملكة المتحدة (2583)
-  ألمانيا (2482)
-  مصر (2210)
-  المغرب (2143)
-  السعودية (1750)
-  ليبيا (1469)
-  تونس (1212)
-  أيرلندا (993)
-  سنغافورة (739)
-  هولندا (682)
-  أوكرانيا (603)
-  العراق (602)
-  تركيا (499)
-  النرويج (413)
-  الأردن (389)
-  السويد (345)
-  إسبانيا (333)
-  الإمارات العربية المتحدة (319)
-  بلجيكا (289)
-  الهند (268)
-  إندونيسيا (267)
-  البرازيل (238)
-  اليابان (229)
-  رومانيا (226)
-  السودان (216)
-  قطر (199)
-  إيران (186)
-  أستراليا (176)
-  فلسطين (175)
-  سويسرا (168)
-  سيشل (160)
-  جمهورية التشيك (157)
-  اليمن (147)
-  بولندا (138)
-  الكويت (130)
-  فيتنام (125)
-  عمان (118)
-  لبنان (115)
-  سوريا (112)
-  تايلاند (105)
-  هونغ كونغ (99)
-  ماليزيا (91)
-  اليونان (89)
-  الدنمارك (87)
-  بلغاريا (86)
-  مولدوفا (80)
-  النمسا (79)
-  جنوب أفريقيا (68)
-  نيجيريا (67)
-  باكستان (66)
-  البحرين (64)
-  النيجر (58)
-  البرتغال (58)
-  السنغال (48)
-  بنغلاديش (46)
-  المجر (44)
-  الأرجنتين (41)
-  موريتانيا (39)
-  كوريا الجنوبية (38)
-  المكسيك (38)
-  الصومال (37)
-  ساحل العاج (35)
-  فنلندا (35)
-  الكاميرون (33)
-  الفلبين (33)
-  لوكسمبورغ (30)
-  هندوراس (29)
-  سلوفاكيا (28)
-  لاتفيا (26)
-  ألبانيا (25)
-  تشيلي (25)
-  كازاخستان (25)
-  مالي (24)
-  تايوان (24)
-  ليتوانيا (22)
-  صربيا (22)
-  كينيا (21)
-  تانزانيا (19)
-  غينيا (17)
-  نيوزيلندا (17)
-  كرواتيا (16)
-  كولومبيا (15)
-  كوراساو (14)
-  إثيوبيا (14)
-  أرمينيا (10)
-  روسيا البيضاء (10)
-  بليز (10)
-  الغابون (10)
-  آيسلندا (9)
-  بنما (9)
-  فنزويلا (9)
-  أذربيجان (8)
-  بنين (8)
-  جيبوتي (8)
-  منغوليا (8)
-  نيبال (8)
-  جورجيا (7)
-  قيرغيزستان (7)
-  تشاد (6)
-  الإكوادور (6)
-  غينيا الاستوائية (6)
-  بيرو (6)
-  لا ريونيون (6)
-  أوزبكستان (6)
-  أفغانستان (5)
-  كمبوديا (5)
-  كوستاريكا (5)
-  موريشيوس (5)
-  سلوفينيا (5)
-  غامبيا (4)
-  غواتيمالا (4)
-  سريلانكا (4)
-  بوركينا فاسو (3)
-  إستونيا (3)
-  ليبيريا (3)
-  مقدونيا (3)
-  بورتوريكو (3)
-  الأوروغواي (3)
-  البوسنة والهرسك (2)
-  جمهورية الكونغو (2)
-  غانا (2)
-  جامايكا (2)
-  مدغشقر (2)
-  مايوت (2)
-  موناكو (2)
-  بورما (2)
-  توغو (2)
-  أوغندا (2)
-  زامبيا (2)
-  أندورا (1)
-     أنغولا (1)
-  باهاماس (1)
-  باربادوس (1)
-  بوليفيا (1)
-  جزر القمر (1)
-  قبرص (1)
-  جمهورية الدومينيكان (1)
-  السلفادور (1)
-  إريتريا (1)
-  جبل طارق (1)
-  لاوس (1)
-  ماكاو (1)
-  جزر المالديف (1)
-  مالطا (1)
-  مارتينيك (1)
-  موزمبيق (1)
-  كاليدونيا الجديدة (1)
-  نيكاراغوا (1)
-  باراغواي (1)
-  طاجيكستان (1)
-  تيمور الشرقية (1)
-  الجزر العذراء البريطانية (1)
196225 زائرًا من159 دولة
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ عزالدين رمضاني © 2019