التَّعْلِيمُ القُرْآنِي
حرّر في :
لقد اتَّفقت كلمةُ عقلاء هذه الأمَّة المرحومةِ من المُربِّين والمُعلِّمين والمصلحين على إصلاحِ مناهج الدِّراسة وبرامج التَّعليم، وصيانتهما من كلِّ دخيلٍ يعبث بقِيَمِها ويَسلَخُها من عقيدتها، ويمنعها من سرِّ التَّفوُّقِ وإِكْسِيرِ النَّجاح والنَّافع المفيد، والعمل على أن تُصبَغَ العلومُ بصبغةِ الإيمان، وتُؤخَذَ العقولُ بميزان الدُّنيا والآخرة، تُوضَع الأشياء في مواضعها، ويُفرَّق بين الوسائل والغايات؛ إذ لا نفعَ في علمٍ لم يُكْسَ بحلَّةِ الأخلاق، ولا جدوى من تربية لا تُثمِرُ الصَّالح من الأعمال، ولا أملَ في ثقافات تشكِّك في المُسَلَّم من المُعتَقدات وتَستَخِفُّ بالدِّين، ويتطاول أصحابُها على الموروث الأصيل، ومن لم يَتهَيَّأْ لهذا الواجبِ الثَّقيل ويعملْ على حفظِ هذه المكاسب فهو جانٍ على أبنائه ومُستَقبَلِهم، غاشٌّ للأمَّة في جِيلِها وشبابِها، مُتسبِّبٌ في خسارة رأس مالها الضَّخمِ وكَنزِها الَّذي لا يُقدَّر بثمن.
ومن أولويَّات إصلاحِ التَّعليم الَّذي تقع مسؤوليَّتُه على كاهلِ المُربِّين؛ بدءً من الأبوَيْن وانتهاءً بكلِّ من أُسنِدَ له أمر التَّوجيه والإشراف على التَّربية والتَّعليم، تحبيب العلمِ وأهلِه إلى النَّاشئة وتعظيمه في نفوسِهم، لا سيَّما العلم الدِّيني؛ فإنَّ تحصيلَه بركةٌ؛ إذ هو أشرف العلوم كلِّها، وشرف العلم بشرف المعلوم كما لا يخفى.
وإنَّ أوَّلَ ما يتَعلَّمه الطِّفلُ من العلوم بعد تلقينه الإيمان والتَّوحيد هو القرآنُ؛ قراءةً وتجويدًا، حفظًا وإتقانًا؛ لأنَّ حفظَ الصَّبيِّ لكتابِ الله في سنِّ الصِّغَر عونٌ له على بقاء الفطرة على سلامتِها، واللِّسان على فصاحتِه، والعقلِ على قوَّةِ تفكيره وسلاسة نظره، قال الشَّافعي رحمه الله: «مَنْ حفظ القرآن عَظُمَت قيمتُه» [«جامع بيان العلم وفضله» (2/ 1134)].
وقد أشاد كثيرٌ من علماء الإسلام المُشتَغِلين بالتَّربية والتَّعليم إلى أهمِّيَّةِ تعليم القرآن للأطفال وتحفيظهم إيَّاه، ولو كان قليلاً لا يتجاوز الآيةَ الواحدةَ في اليوم، وبيَّنوا أنَّ تعليمَ القرآنَ هو أساسُ التَّعليم في كلِّ البرامج التَّعليميَّة والمناهج التَّربويَّةِ وعبر جميع الأعمار والأطوار؛ لأنَّه شعارٌ من شعائر الدِّين يؤدِّي إلى تثبيت العقيدة ورسوخ الإيمان وحفظ القيم والأخلاق.
قال السُّيوطي رحمه الله: «تعليم الصِّبيان أصلٌ من أصولِ الإسلام، فينشَؤُون على الفطرةِ، ويَسبِقُ إلى قلوبهم أنوارُ الحكمة قبل تمكُّنِ الأهواءِ منها، وسوادِها بأكدارِ المعصية والضَّلالِ» [«التَّراتيب الإداريَّة» (2/ 198)].
وقد عقد ابنُ خلدون في «مُقدِّمته» (2/ 1038) فصلاً مُهِمًّا في فضل تعليم الولدان القرآن؛ حيث قال: «اعلمْ أنَّ تعليمَ الولدان للقرآن شعارٌ من شعائِرِ الدِّين، أخذَ به أهلُ الملَّةِ ودَرَجوا عليه في جميعِ أمصارِهم، لِمَا يَسبِقُ فيه إلى القلوب من رسوخِ الإيمانِ وعقائِدِه...»، وأشار بعد ذلك إلى أنَّ «القرآن أصلُ التَّعليم الَّذي يَنبَنِي عليه ما يحصل بعدَه من المَلَكَات» وسببُ ذلك كما قال: «إنَّ تعليمَ الصِّغَر أشدُّ رسوخًا، وهو أصلٌ لِمَا بعده؛ لأنَّ السَّابقَ الأوَّلَ للقلوب كالأساس للمَلَكَات».
قال ابن باديس رحمه الله: «فإنَّنا ـ والحمدُ لله ـ نُربِّي تلامِذَتَنا على القرآنِ من أوَّلِ يَومٍ، ونُوجِّهُ نُفوسَهم إلى القرآنِ في كلِّ يوم، وغايَتُنا الَّتي سَتتحَقَّقُ أن يُكَوِّنَ القرآنُ منهم رجالاً كرجالِ سَلَفِهم» [«الآثار» (2/ 142)].
وعلى هذا النَّهجِ القويمِ درَجَ سلفُنا الصَّالح، يُعلِّمون أبناءَهم كتابَ الله ويدفعون بهم إلى الكتاتيبِ والمساجدِ والمدارس، ويختارون لهم أحسنَ المُؤدِّبين وأَجْوَدَ المُعلِّمين وأَتْقَنَ المُقرِئين، مُحتَسِبين الأجرَ والثَّوابَ في هذا التَّعليم والتَّلقين، مُدرِكين ثقلَ الواجب المُلقَى على عاتِقِهم، جاعِلِين نصْبَ أَعيُنِهم تلك النُّصوصَ المُرغِّبَةَ والمُحفِّزَةَ على نَيلِ الدَّرجاتِ العُلا في جنَّاتِ النَّعيمِ، والَّتي منها قولُ نبيِّنا ﷺ: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وعَلَّمَهُ»، وقوله أيضًا: «مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ وتَعَلَّمَهُ وعَمِلَ بِهِ، أُلْبِسَ يَوْمَ القِيَامَةِ تَاجًا مِنْ نُورٍ، ضَوْءُهُ مِثلُ ضَوْءِ الشَّمْسِ، ويُكْسَى والِدَيهُ حُلَّتيْنِ لا تَقُومُ لهما الدُّنْيَا، فَيَقُولان: بِمَ كُسِينَا هذا؟ فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا القُرْآنَ» [رواه الحاكم (2113)]، وأثر ابنِ عبَّاس الَّذي في مسلم (403): «كان رسولُ الله ﷺ يُعلِّمُنا التَّشهُّدَ كما يُعلِّمُنا السُّورةَ من القرآنِ»، وحفظ لنا التاريخ مكاتبات الملوك والأمراء إلى مُؤدِّبِي أبنائهم ومُعلِّميهم، وكيف كانوا يطلبون منهم الاهتمامَ بتعليم أبنائهم القرآن قبل الانتقال إلى أيِّ علمٍ أو أدبٍ، فهذا هشام بنُ عبد الملك يوصي سليمان الكلبي مؤدِّبَ ابنِه، يقول له: «إنَّ ابني هذا هو جلدةُ ما بين عَيْنَيَّ، وقد ولَّيتُكَ تأديبَه، فعليك بتقوى الله، وأَدِّ الأمانةَ، وأوَّلُ ما أوصيك به أن تأخذَه بكتابِ الله، وأَقرِئْهُ في كلِّ يومٍ عشرًا، يحفظ القرآنَ حفظَ رَجُلٍ يريد الكسبَ» [«تاريخ دمشق» (22/ 331)].
حتَّى بلغ من فَرْطِ اهتمامِهم بحفظِ القرآنِ أنَّهم كانوا يُشدِّدون على أبنائهم وتلامذتهم بالضَّربِ والتَّعزيرِ، قال عكرمة: «كان ابنُ عبَّاس رضي الله عنهما يجعل الكَبْلَ في رِجْلَيَّ على تعليمِ القرآنِ والسُّنَّة» [«الحلية» (3/ 326)].
وقد كانت هذه الأمَّةُ في عِزِّ مَجدِها تحتفي بحَفَظَةِ القرآن وتُشجِّعُهم وتُكرِمُهم، وتُولِيهم الاهتمامَ، وتُقدِّمُهم في المحافلِ والمناسبات، ويفرحون أشدَّ الفرحِ عندما يحفظ صبيٌّ منهم شيئًا من كتابِ الله أو يحفظه كلَّه، ويقيمون له وليمةً يُسمُّونَها: وليمةَ الحِذاقَة، قال الحسن: «كان الغلامُ إذا حَذَقَ قبل اليومِ ـ أي أصبح ماهرًا في تعلُّم القرآنِ وحفظِه ـ نحروا له جَزُورًا وصنعوا طعامًا للنَّاس» [«العيال» لابن أبي الدنيا(315)].
وكان بعضُ مَنْ سَلَف يَعُدُّ من أسباب بقاء الخيرية في هذه الأمة حفظ أبنائها القرآن؛ قال عبد الله بنُ عيسى: «لا تزال هذه الأمَّةُ بخيرٍ ما تعلَّم ولدانُها القرآنَ» [«العيال» لابنِ أبي الدُّنيا (306 ـ 307)].
وما ترويه لنا كتبُ التَّاريخ والأخبار، وأسفارُ السِّيَرِ والتَّراجم، ونوادِرُ الأدبِ والإملاءِ، من مدى عنايةِ هذه الأمَّة في أَعصُرِها الذَّهبيَّة بتحفيظِ النَّاشئة كتابَ الله لا يمكن جمعُه والإحاطةُ به، ولا التَّعبير عن الإعجابِ والدَّهشةِ الَّذي يملك كلَّ مُنصِفٍ، وهو يطالع ما حوَتْه من الذَّخائر والكنوز، وما شهدَتْه تلك العهودُ من التَّوافُدِ والإقبالِ على المدارس القرآنيَّة والكتاتيبِ حتَّى إنَّه لمَّا ضاقت المساجدُ بالصِّبيان اضطرَّ الضَّحَّاك بنُ مُزَاحم ـ مُؤدِّبُ الصِّبيان ومُعلِّمُهم ـ إلى أن يطوفَ على حمارٍ ليُشرِفَ على طُلاَّبِ مكتبه الَّذين بلغ عددُهم ثلاثةَ آلاف صبِيٍّ [«معجم الأدباء» لياقوت (12/ 16)].
إنَّنا مَهْمَا بذلنا الجهودَ وأعددنا القوَّةَ وأنفقنا الأموالَ للحفاظ على هوِيَّةِ الأمَّة وإعزاز مكانتها، فلن يكونَ ذلك بمَعزِلٍ عن السَّبب الَّذي جعلها اللهُ به خيرَ أمَّةٍ أُخرِجَت للنَّاس، والحبلِ الَّذي أمرها الله أن تَعتَصِمَ به وتفخر بالانتساب إليه، ألا وهو كتابُ الله الَّذي قال فيه لنبيِّه ﷺ: ﴿مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى﴾[طه:2-3]، وقال لأمَّتِه المرحومة: ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُون﴾[الأنبياء:10].
فمن الهوان والضَّعف؛ بل ومن الحماقة أن نزهدَ في هذا الميراث الثَّمين، ونُضيِّعَ المجدَ والسُّؤددَ الَّذي به شُرِّفْنا ورُفِعنا، ونستبدلَ الَّذي هو أدنى بالَّذي هو خيرٌ.
وكلُّنا يعلم أنَّ بلدَنا الحبيبَ ـ صانه اللهُ من مكرِ اللِّئام ـ قد عانى من وَيْلات المُستَعمِر الغادر، ومن مَكرِه وخُبثِه، ولم يكنْ تَعلُّقُه بالأرضِ وخيراتِها ومحاولةُ البقاءِ فيها بقدرِ ما كان يَطمَحُ في إزالةِ هويَّةِ الأمَّة وإبعادها عن دينِها في جميع مناحي الحياةِ، وقد سجَّل التَّاريخُ أنَّ الحاكمَ الفرنسي قال في ذكرى مرورِ مائة سنةٍ على استعمار فرنسا للجزائر: «إنَّنا لن ننتصرَ على الجزائريِّين ما داموا يَقرَؤون القرآنَ ويتكلَّمون العربيَّةَ، فيجب أن نُزِيلَ القرآنَ من وجودهم ونقتلعَ اللِّسانَ العربي من ألسنَتِهم» [«المنار» العدد (9) ـ 1962م].
ولقد حاولَتْ فرنسا في تلك الحقبةِ إغلاقَ وهدمَ المدارسِ القرآنيَّةِ والمساجد والزَّوايا المُهتَمَّة بتحفيظِ كتابِ الله فلم تُفلِحْ، مع أنَّها عَمِلت على إفسادِ بَعضِها بإدخالِ البدع فيها والتَّرويجِ للعقائد الفاسدة، ولكن مع ذلك ظلَّت هذه المدارسُ المتواضعةُ في تلك الأزمنة الصَّعبة تقاوم وتؤَدِّي ما عليها من واجبِ تعليم القرآن وتحفيظِه، فحفظَتْ للأمَّة كيانَها، وحالت دون ذَوبانِها وانسلاخِها، ليبقى دينُها وقرآنُها العِرقَ النَّابضَ، والنَّفَس المستميت الَّذي يُمدُّها بالحياةِ كلَّما احتاجت إلى الظُّهور وفرضِ الوجود لم يَجرِفْها التَّيَّار، ولم تَقضِ عليها العواصفُ، ولم تُهلَكْ في الغابِرِين، كيف اليوم وقد افتكَّتْ حُرِّيَّتَها وعاد إليها استقلالُها الَّذي منَّ الله به عليها.
وفي الأفق أناملُ خفيَّةٌ تريد اقتحامَها لتُفسِدَ فيها وتعرِيَتَها من رُوحِها وتعطيلَ وظيفتِها، تدَّعي أنَّها تُمثِّلُ خطرًا على الأمَّةِ، ولا تنسجم مع التَّعليمِ العصري ولا تلتقي معه في أهدافِه وغاياتِه، بل هي إلى الإرهاب والعنف أقرب، وما إلى ذلك من الأباطيل والأراجيف.
إنَّ على عقلاء الأمَّة ومُحبِّي الخير لهذا البلد أن يَسعَوْا جاهدِين للحفاظِ على هذه المدارس والمحاضن، والعمل على ترقِيَتِها وتعميمِها لا في المساجد فحسبُ، بل في الأحياء والقُرَى والمدنِ والمرافقِ الاجتماعيَّة؛ فإنَّها واللهِ الرِّئَةُ الَّتي تَتنفَّسُ بها الأمَّةُ، فإذا أُجهِضَت وضُيِّقَ عليها مات الجسدُ وتعطَّلت الحواسُّ، ولم يَبْقَ إلاَّ تجهيزُ الميِّت وتقديمُ العزاءِ، حفظ اللهُ لنا مدارسَنا وصان مناهجَها من عَبثِ العابثين وكيدِ الجاهلين؛ إنَّه حفيظٌ عليمٌ.
(عدد المشاهدات8928 )
يُبث في الإذاعة
جديد الموقع
تابعنا على الفايس بوك
موعظة الأسبوع
قالَ الإمامُ ابنُ حزمٍ -رحمه الله- : «إذا حضرت مجْلِس علمٍ فَلا يكن حضورك إِلاّ حُضُور مستزيدٍ علمًا وَأَجرًا، لا حُضُور مستغنٍ بِمَا عنْدك طَالبًا عَثْرَة تشيعها أَو غَرِيبَةً تشنِّعها، فَهَذِهِ أَفعَال الأرذال الَّذين لا يفلحون فِي الْعلم أبد
اقرأ المزيدالأكثر مشاهدة
زوّار الموقع
مواقع مفيدة :